الجمعة، سبتمبر 26، 2008

..::حيدر وسمية الجزء الاخير ::..

... اعتدلت سمية في جلستها، ورأت أن ابنها "حسين" قد غفا، بينما كانت هي تسبح في بحر الذكريات، فوضعته في سريره ثم توجهت إلى درج خزانتها لتستخرج منه مغلفاً كان قد سلمها إياه أحد الشابين المجاهدين، وقال لها أن الشهيد قد أوصاه أن يسلمه لزوجته. فتحت سمية المغلف وأخذت منه ورقة كان فيها رسالة من زوجها حيدر لها، وبدأت تقرأها بكل تمعن...

بسم الله الرحمن الرحيم

حبيبتي سمية، تحية وبعد، السلام عليك يا زوجتي الصابرة الصامدة

حين تقرأين هذه الرسالة، فإنني أكون قد صرت شهيداً سعيداً عند ربي سبحانه وتعالى. أعلم يا حبيبتي بأن الحمل عليك اصبح ثقيلاً، وأعلم أنني تركتك لتواجهي الدنيا وحدك. ولكنني يا زوجتي العزيزة قد اخترت عدم التخاذل، ومشيت في طريق محتم على كل من يريد العيش بكرامة، وأبيت أن يكون مصيري سخط الله سبحانه وتعالى عليّ. وهذا الطريق كما كنت تعلمين دائماً هو طريق محفوف بالمخاطر والصعاب، وعلى الواحد منا أن يتوقع دائماً إما الشهادة أو الأسر. وها أنا قد اختارني الله واستعاد أمانته، فلا تحزني يا حبيبتي بل افرحي وافخري واعلمي أنني لن أنساك، وسأنتظرك في الجنة إن شاء الله لتكوني أنت حور عيني..

أعتقد الآن، وبينما أنت تقرأين الرسالة، أن ابننا موجود بقربك، كم كنت مشتاقاً لأن احتضنه وأراقبه يكبر امام عيني، والاعبه وأحادثه وأصحبه معي إلى المسجد. ولكن الله كما شاء فعل، وهذا هو قدري. فيا حبيبتي أوصيك بأن تحافظي على ولدنا قدر استطاعتك، وأن تربيه أفضل تربية وانا على ثقة بأنك أهل لهذا. وعلميه بأن والده كان مجاهداً اختار درب الحق، ومشى فيه واستشهد من أجل اعلاء كلمة الله ونصرة المظلومين. وقولي له بأنني أحبه أكثر من عمري وبأنه سكن قلبي وعقلي وروحي حتى قبل أن يولد.

أحبيه كثيراً يا سمية ولا تقسي عليه، ولكن أدبيه حتى يغدو رجلاً مسؤولاً يحميك ويسهر على راحتك. واحرصي على أن يكون مجاهداً هو أيضاً، فهذه المسيرة مستمرة حتى قيام يوم الدين وحتى ينتهي الظلم والجور من الوجود.

سامحني عزيزتي على تركي لك، وأنا أعلم كم تعبت معي في حياتنا وكم صبرت وتحملت وأجرك إن شاء الله يحتسبه رب العالمين وستكونين من أهل الجنة ان شاء اللهز آجرك الله يا أم حسين. وملتقانا ان شاء الله في الجنة مع الأنبياء والأولياء والشهداء والصديقين.

زوجك وحبيبك

الشهيد حيدر "أبو حسين"

انهت سمية قراءة رسالة زوجها ومسحت عن خديها دموعها التي انهمرت كأنما الرسالة أعطتها القوة والصبر مجددا. ثم نهضت ونظرت من النافذة، وهي في نفسها تعاهد زوجها الشهيد بأن تظل على نفس الطريق وأنها ستجاهد بتربية إبنه حتى يصبح رجلاً يرعب أعداء الله بجهاده وإيمانه. وابتسمت وهي تنظر الى الأفق البعيد فقد كانت ترى وجه حبيبها يتلألأ في كبد السماء كأنه القمر، يبتسم لها هو أيضاً وينتظرها يوم اللقاء في جنة تجري من تحتها الأنهار وهم فيها خالدون.

تمت

الخميس، سبتمبر 18، 2008

..::حيدر وسمية(5)::..



مرت أيام الحرب الباقية كأنها سنوات، وحينما خمدت نيران المدافع والصواريخ، عاد أهل القرى إلى بيوتهم المدمرة وأراضيهم المحترقة، وكلهم فخر بأنهم هزموا أعتى جيش في المنطقة، ولقنوا العدو درساً لن ينساه طوال سنين. وبدأ الغبار ينقشع عن الطرقات والأزقة، وخرج الناس من الملاجئ التي لم تكن لتقيهم خطر الموت تحت الردم، لكنها كانت الشيء المتوافر أمامهم حينها. خرجوا من الأقبية ليحتضنوا خيوط الشمس التي شهدت صبرهم وصمودهم طوال الحرب. وبدأت الحياة تعود إلى قرى الجنوب، وكذلك البقاع والضاحية.

وحان وقت عودة المجاهدين، انتظرت سمية عودة زوجها الحبيب لتستقبله بابنهما. وفي يوم، كانت في بيتها تحاول إعادة تأهيله لما كان عليه، فتزيل قليلا من الردم هنا، وترمي ما تحطم من أثاث هناك، وتحصي الأضرار التي لحقت بعشها الزوجي. طرق الباب أحدهم، فهرعت سمية لتفتح، لترى أباها ومعه شابان من القرية، أحدهما مصاب برجله والآخر مضمداً رأسه. دققت سمية النظر فيهما، فتذكرت أنهما صديقا زوجها، لكن الحرب غيرت من معالم وجهيهما. أحست سمية حينها بأن أمراً غريباً قد حصل، وانقبض قلبها حين رأت نظرة أبيها وحاولت سؤاله عن سبب وجومه لكنه لم يجب. جلس الثلاثة في غرفة الجلوس وجلست سمية قبالتهم وفي وجهها ألف سؤال وسؤال. ما سبب حضورهم إلى هنا؟ أين حيدر؟ لم لم يأت معهم؟... حل السكوت لفترة في الغرفة، لكن والد سميه قطعه ليخبرها بأن حيدر قد استشهد. لم تصدق سمية ما سمعته أذناها، وكان أول رد فعل أن حملت ابنها الذي كان بقربها وحضنته، ونظرت إليه ثم بكت. فقد عرفت حينها بأن ابنها أصبح يتيماً، وأنها اصبحت وحيدة. كانت تلك أصعب لحظة تمر على سمية، اصعب حتى من لحظات القصف المدمر فوق القرية، أصعب حتى من سماعها بكاء الأطفال في قبو المسجد، أسوأ حتى من رؤيتها للجرحى والشهداء يسقطون أمام عينيها.

طلب والد سمية منها أن تصبر وتحمد الله على كل حال، فمسحت دموعها وطلبت من الشابين أن يرويا لها كيف سقط زوجها شهيداً. فأخبراها بأن الشهيد حيدر كان من أشجع الرجال في المواجهات مع جنود العدو، وقد استبسل في القتال حتى قتل الكثير من الصهاينة، لكن المنزل الذي دخل إليه مع مجاهد آخر تعرض لغارة دمرته، فاستشهد حيدر ورفيقه معاً. كانت سمية تستمع إلى حديث الشابين وعقلها في نفس الوقت يرسم صورة زوجها الحبيب وهو في تلك اللحظات. ثم علمت سمية أيضاً بأن زوجها استشهد في اليوم الخامس والعشرين من الحرب، اي في نفس يوم ولادة ابنها.


يتبع...